مفارقات
بين أخلاق القرية والمدينة
أ.د. صلاح الدين سلــــطــان
المستشار الشرعي للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية - مملكة البحرين
عضو مجلس أمناء الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
عضو مجلس أمناء رابطة أهل السنة
عضو المجالس الفقهية فى أوربا وأمريكا والهند
يقال إن العالم بعد عصر العولمة والاتصالات والفضائيات وسرعة المواصلات قد صار "قرية صغيرة" وهو افتراء على القرية ، والأولى أن يسمى العالم "مدينة صغيرة" أو "فندق صغير" لأن القرية يعرف الناس بعضهم بعضاً فتعرف العائلات الأصيلة من الدخيلة ، أما المدينة فيختلط الحابل بالنابل، وكل إنسان يعرف بمستواه في الملبس والمظهر أكثر من الحقيقة والجوهر، في القرية أصول يراعيها الجميع، فهم يفرحون معاً، ويحزنون معاً، ويلبسون ملابس متشابهة، ويأكلون طعاماً متقارباً، وعادات واحدة ، لكن المدينة فيها من كل لون ، وفي العمارة أو الحارة الواحدة مصاب كبير وفرح مستطير، وتختلط الأغاني بالصراخ، والموسيقى مع المواعظ، وكل يغني أو يأسى على ليلاه، وعادات كل بيت في الطعام والشراب واللبس والزواج والطلاق مختلفة بعدد البيوت و الفلل والعمارات .
في القرية هناك كبير القوم المطاع سواء كان العمدة أو شيخ البلد أو شيخ القبيلة أو حكيم البلد، أو عالم القرية، لكن المدينة فالكل كبير، وزعيم وقائد وعمدة وسيد وشيخ ومفتي، ولا سلطان لأحد على أحد ، و لا أحد يكبر ويشفع لأحد .
في القرية تختفي المباني بين المآذن والأشجار و الزروع والأزهار والثمار، ويملأ الجو عبق من الورود والعصافير ، والقطط الأليفة، وفي المدينة تعلو الأبراج على المآذن ، والمسارح على المساجد، والعمارات على الأشجار، وكلاب الحراسة على عصافير الجنات، والتماثيل على القناديل .
في القرية يتعلم الأولاد من الأب والأم والعم والخال، والجار و القريب والبعيد، وكل أهل القرية يربون أطفالها جميعاً؛ فينشأون اجتماعيين كرماء أسخياء، أما أطفال المدينة فمساكين يربيهم التلفزيون وأبطال الأفلام والكرة ، والمصارعة الحرة وغير الحرة، والنجوم والكواكب على أعواد المسارح، فيكون كل واحد منهم جزيرة منعزلة عمن حوله حتى الأسرة الصغيرة والكبيرة ، لكن الألم يشتد عندما تمتد يد العولمة البغيضة لتفسد القرى والنجوع ، وتنشر الذل والخنوع ، والاستسلام للهوى والشيطان ،لكن الأمل أن يبقى رجال مؤمنون ونساء مؤمنات يعيدون للقرية أخلاقها ، وأصولها وعراقتها وتحمل نور القرآن والسنة من أم القرى لمن حولها من المدن والقرى في العالم أجمع ليتحول إلى الرحمة بالعالمين وليس العولمة بالمفسدين .
